المنطقة العربية بما تشهده من أحداث سريعة ومتلاحقة وظروف دقيقة، تعد من أكثر مناطق العالم احتياجًا إلى مبادرات سياسية واقتصادية وحلول غير تقليدية للقضايا والمشاكل العالقة، فهذه المنطقة تشهد أكثر صراعات العصر الحديث تعقيدًا وتشابكًا منذ منتصف القرن العشرين بفعل عوامل مختلفة وعناصر متضادة، ومنها الصراع الفلسطيني / الإسرائيلي بتبعاته المختلفة وزادته تعقيدًا الحكومات اليمينية الإسرائيلية المتطرفة التي تعتنق أفكارًا شديدة التطرف ولا تقبل الآخر وترفض التعايش معه، كما يقع على حواف المنطقة قوميات أخرى تسعى لإحياء مشروعات قومية تبتعد عن منطق التعايش السلمي وقبول الآخر وهذا ما تمثله إيران خصوصًا بعد نشوب الثورة التي قادها الخميني عام 1979م، وما تحمله من أيدولوجيا وطائفية تجنح نحو الابتعاد وليس الوفاق والاقتراب، وكذلك القومية التركية بما تحمله من حسابات خاصة وأدوات وأفكار تقترب أحينًا وتبتعد أحيانًا أخرى ؛ حسب مقتضيات المصالح، إضافة إلى الصراعات في إفريقيا على المياه والثروة والخلافات القومية والعرقية، وفي الوقت ذاته يشهد الجوار الشمالي الأوروبي حالة انكفاء، بل وحذر من الجوار الجنوبي كونه يخشى من تداعيات الهجرة غير الشرعية وتسرب الجماعات الإرهابية ناهيك عن تأثير اليمين المتطرف على الحكومات الأوروبية، وفي غضون ذلك تقف الولايات المتحدة موقفًا مغايرًا لما كانت عليه في السابق، بل تبدو مواقفها أحيانًا شديدة التطرف ضد الكثير من بلدان العالم خاصة بعد وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، كما تبدو قوى الشرق بعيدة إلى حد ما عن المنطقة العربية، فروسيا في حالة إنهاك وانهماك داخلي بسبب الحرب الأوكرانية وعليه فهي منكفئة على شأنها الداخلي وتكتفي بمراقبة جوارها الأوروبي، بينما الصين لديها حسابات ومصالح مع الولايات المتحدة ومشغولة بصعودها إلى مصاف القوى العظمى وتكتفي بالمشاركات الاقتصادية والاستثمارات دون انخراط خارجي حقيقي في قضايا منطقة الشرق الأوسط.
كل هذه الظروف والتحديات تفرض على المنطقة العربية الاعتماد على الذات والتوجه نحو الشراكات البينية والخارجية المنتقاة بعيدًا عن الاستقطاب الدولي، ومن ثم يجب الاهتمام بالمبادرات العربية ـ العربية لتصفية الخلافات وما يعلق بالعلاقات البينية من غبار سياسي بسبب التداعيات الإقليمية والظروف الدولية، ومن الأهمية بمكان مأسسة المبادرات العربية بجهود ذاتية والاستفادة من المنظمات العربية مثل جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي على أن يتم تشكيل نواة خليجية / عربية للقيام بهذه المبادرات تتشكل من لجان فنية تضم خبراء متخصصين ومراكز بحثية، تتولى دراسة الأوضاع العربية وتدرس المشكلات القائمة بشيء من التخصص والتفصيل وترفع توصياتها لصانع القرار وهذا ما يعني مأسسة هذه المبادرات والاستفادة من الدول ذات الخبرة في هذا المجال خاصة دول مجلس التعاون الخليجي مثل المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان وقطر والكويت حيث تمرست هذه الدول على الوساطات الناجحة وحققت نتائج إيجابية وملموسة ، ولديها فائض خبرة في هذا المجال يمكن الاستفادة منه والبناء عليه.
ولعل من القضايا الملحة التي تتطلب الوساطات العربية الجماعية، قضايا الصراعات الداخلية والحروب الأهلية في الدول العربية الرخوة التي تعاني من تصدع جبهتها الداخلية بما يسمح بالتدخل الخارجي في شؤونها الداخلية وتهجير شعوبها بما يهدد الأمن العربي الجماعي، ويتجسد هذا النموذج في السودان، واليمن، وليبيا، إضافة إلى قضايا أخرى تحتاج إلى الوساطة العربية الجماعية مثل قضايا التدخل الخارجي، أو خلافات قديمة مازالت ترزح المنطقة العربية تحت تبعاتها كما هو الحال بين بعض دول المغرب العربي، أو حالات أخرى بسبب الأقليات، أو تقسيمات طائفية تسمح بتمدد نفوذ دول الجوار غير العربية وتفتح ثغرة في جدار الأمن القومي العربي، ولذلك يكون من مهام مؤسسة المبادرات ـ إن جاز تسميتهاـ مسؤولية تحديد المخاطر والتحديات التي تواجه المنطقة بشكل جماعي أو التي تواجه كل دولة على حدة حتى يتم التشخيص الدقيق سواء كانت أمنية أو سياسية أو مجتمعية، وهذا ما ينطبق على التحديات الاقتصادية ومنها قضايا الفقر والأمية والتصحر والجفاف ونقص موارد المياه العذبة وضعف معدلات التنمية وارتفاع حجم الديون وغير ذلك، وهنا قد تكون الحلول جماعية ولا يتحمل طرف واحد مسؤولية حل مشكلات المنطقة العربية برمتها، كما أن مأسسة المبادرات والوساطات تسمح بتبادل الخبرات وانصهارها في بوتقة واحدة ومن ثم الوقوف على طبيعة التحديات بدقة وعليه تكون الحلول ناجحة وواقعية وعملية.
وإذا تم تفعيل ومأسسة المبادرات والوساطات العربية ستكون إضافة عملية للعمل العربي المشترك وبعيدًا عن بيروقراطية الأجهزة الرسمية التقليدية بما يخدم قضايا الأمة وشعوبها.






